يُهدد مستقبل الملايين.. انهيار إداري يُقوّض فرص الفقراء في التعليم الجامعي بأمريكا

يُهدد مستقبل الملايين.. انهيار إداري يُقوّض فرص الفقراء في التعليم الجامعي بأمريكا
التعليم الجامعي بأمريكا - أرشيف

في ظهيرة يوم صيفي حار في يوليو الجاري، وبينما كانت وزارة التعليم الأمريكية تُسرّح قرابة نصف موظفيها بموجب قرارٍ للمحكمة العليا، تعطّلت فجأة بوابة FAFSA، النظام الفيدرالي للمساعدات الطلابية، ما منع آلاف الطلاب من تقديم طلبات التمويل للالتحاق بالجامعات.

أمضى اثنان وسبعون موظفًا ساعات على اتصال طارئ عبر Microsoft Teams لإصلاح الخلل، نجحوا في استعادة الخدمة، لكن الحدث ترك سؤالًا مفتوحًا: هل ما زال النظام قادراً على دعم فقراء أمريكا في سعيهم للتعليم العالي؟

وفقًا لتحقيق موسع نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، فإن التعليم الجامعي في الولايات المتحدة لم يعد بوابة للعدالة الاجتماعية كما كان يُروج له لعقود، بل بات أداة ترسّخ الفجوة الطبقية، وتُعيد إنتاج عدم المساواة من جيل إلى آخر.

في بداية القرن العشرين، كان من الممكن أن يرفع التعليم العالي مستوى الطالب بغضّ النظر عن دخله العائلي، إلا أن الواقع تغير بشكل صارخ. اليوم، يحصل الطلاب المنحدرون من عائلات ثرية على مكافآت مهنية بعد التخرج تعادل ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه أقرانهم من ذوي الدخل المحدود، كما أوضح الاقتصاديان زاكاري بليمر وسارة كوينسي في دراستهما التي امتدت إلى قرنٍ من البيانات الرسمية.

تراجع في تحقيق المساواة

لكن ما الذي أوصل التعليم إلى هذا التراجع الهيكلي في تحقيق المساواة؟ السبب الأبرز كان سياسة موجهة على مدار عقود، دفعت الطلاب الفقراء نحو كليات المجتمع ذات الدراستين القصيرتين والمؤسسات الربحية منخفضة العائد، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، اعتبرت هذه الكليات وسيلة جيدة لتوسيع فرص التعليم، فدعمها الجمهوريون والديمقراطيون على السواء، على أمل أن تُمكن فقراء أمريكا من الوصول إلى التعليم الجامعي، حتى الرئيس ريتشارد نيكسون تبنّى هذه الفكرة، معتبرًا في خطاب عام 1970 أن التعليم المهني أقرب لمصالح الشباب من شهادة الفنون الحرة.

لكن هذه السياسات، بحسب "واشنطن بوست"، خلقت نظامًا من مستويين: الأول موجه للأثرياء في الجامعات البحثية ذات الأربع سنوات، والثاني للفقراء في كليات المجتمع والمؤسسات الربحية، التي تفتقر إلى الموارد وتُقدم شهادات أقل قيمة في سوق العمل. يحصل 16% فقط من طلاب كليات المجتمع على درجة البكالوريوس بعد ست سنوات.

وليس ذلك فحسب، فهذه الكليات، التي تستقبل أعدادًا كبيرة من الطلاب ذوي الدخل المحدود، تعاني من تخفيضات حادة في التمويل الحكومي، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الطلاب إلى الأساتذة، وانخفاض جودة التعليم، وتزايد معدلات التسرب.

وفي داخل الجامعات نفسها، يختار الطلاب الفقراء تخصصات أقل عائدًا بسبب متطلبات القبول الصارمة في مجالات التكنولوجيا والهندسة والعلوم، ما يُبقيهم في حلقة الأجور المنخفضة.

يتفاقم الوضع مع تفكيك قدرات وزارة التعليم نفسها، كما حذرت مجلة "بوليتيكو"، حيث جاء قرار المحكمة العليا الأخير ليُمكّن إدارة ترامب من تسريح ما يصل إلى 40% من موظفي الوزارة، ورغم أن الوزارة مكلفة بوضع خطتين جديدتين لسداد القروض، وتوسيع برامج المنح الدراسية، إلا أن فقدان هذه الكوادر يعني تقليص قدرة الوزارة على دعم أكثر من 42 مليون مقترض، ووفقًا لراشيل جيتلمان، إحدى الموظفات المفصولات، فإن "النظام كان مختلاً في أفضل حالاته".

تعهدت وزارة التعليم، بحسب المتحدثة إيلين كيست، بتنفيذ خطة الرئيس لخدمة الطلاب رغم التحديات، غير أن الموظفين السابقين حذروا من أن هذا التفاؤل يتجاهل الواقع على الأرض، خاصةً مع تراكم أكثر من 1.5 مليون طلبٍ للحصول على إعفاءات القروض، وتعطّل البوابة الفيدرالية في مناسبات متكررة.

أزمة التعليم العالي

من جهة أخرى، تناولت صحيفة "فايننشال تايمز" هذا الخلل من زاوية مختلفة، محذرة من أن حرب الرئيس ترامب على جامعات النخبة لا تعالج فعليًا أسباب أزمة التعليم العالي، فعلى الرغم من أن النظام يعاني من تضخم إداري وارتفاع غير مبرر في التكاليف، فإن سحب التمويل الفيدرالي، كما تفعل إدارة ترامب، يُهدد الجامعات العامة التي تخدم غالبية الطلاب ذوي الدخل المحدود.

وبدلًا من ذلك، يقترح التقرير إعادة تصميم النظام ليصبح أكثر فعالية، من خلال تقليص الكوادر الإدارية، ودمج التعليم الثانوي والعالي، وتعزيز برامج العمل خلال الدراسة.

وتُشير الصحيفة إلى أن تكلفة التعليم الجامعي ارتفعت بثلاثة أضعاف منذ عام 1979، حتى بعد احتساب التضخم، فيما تضاعف حجم الإدارات وتقلص دور الأساتذة، حيث يتم الاعتماد أكثر على محاضرين مؤقتين منخفضي الأجور، كما يساهم النظام في تهميش الطلاب الفقراء من خلال شروط القبول المعقدة وتكاليف السكن والخدمات.

وتقترح الصحيفة أن يعاد تصور الجامعة كمكان يجمع بين التعلم والعمل والخدمة العامة، لربط التعليم بسوق العمل وإعطاء معنى عملي للشهادات، بدلًا من بقائها كأدوات لتكريس امتيازات النخبة.

أزمة متعددة الأبعاد

كل هذا يكشف عن أزمة متعددة الأبعاد، تتقاطع فيها السياسات الطبقية، وتقلصات الدعم العام، وأولويات السوق، لتجعل من التعليم العالي الأمريكي نظامًا يُفاقم التفاوت بدلًا من أن يُعالجه.

وفي بلدٍ لطالما تباهى بأن التعليم هو طريق الصعود الاجتماعي، يُظهر الواقع أن فقراء أمريكا لم يُخذلوا فقط، بل تم دفعهم عمدًا نحو نظام تعليمي أقل جودة، وأقل قيمة، وأقل قدرة على فتح أبواب المستقبل.

وفي غياب إصلاح جذري، لن يظل التعليم العالي في الولايات المتحدة مجرد فرصة ضائعة، بل سيبقى أداةً لترسيخ الظلم الاجتماعي والاقتصادي لجيلٍ جديد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية